طفل حكم عليــه الدهر بأن يصبح يتيماً طوال حيــاته
ذهبت إليه وألقيته في حضني وبكيت من شدة أنينه.
هل تعلمــون عندما حضنته.. أنينه وبكاءه توقــف.
نظر في عيني وابتسم وبعــــدها نـــــــام.
نام في حضني.. نام كأنه طفل لم يبلغ الأربعين يوماً.
نام في سبات عميق... وأنا جلست أنظــره.
أنظر في عينيه النائمة... في ملامحه البريئة.
هذه الكلمات أشعر بها عند كل زيارة لدور رعاية الأيتام، أو خلال مشاركتي لهم في حفلاتهم.
ويصبح الأمر أكثر قسوة على قلبي عندما يكون اللقاء مشتركاً بين الأطفال اليتامى، وهؤلاء من ذوي من أصحاب الاحتياجات الخاصة، فتصبح الأعين تحت رحمة البكاء، ونصبح غرقى في أنهار من الدموع.
وجدت يدا صغيرة تلامسني من الخلف، فالتفت لأجد سمر ذات السنوات الثلاث، تقول "عمو لم أخذ جائزة،.. قلت لها "عايزه ايه".. فترد.. كرة.. وبين يدي أرفعها لركن الجوائز لتختار الكرة التي حلمت بها؟ وعلى جبينها اطبع قبله، لتقفز إلى الأمام، وكأنها امتلكت الدنيا بما فيها.
وسط ضحكات الصغار.. أجد مدحت ذا الـ14 عامًا، وهو يتلفت يميناً ويساراً، وكأنه يبحث عن جزء منه تاه في زحمة الاحتفال، منادياً بصوت هادئ "ماما"، .. وجاءت كلمة "ماما" وكأنها تدق القلب، فأجد "ماما مدحت" تلتقط يده.
هذا جزء من كثير عشته في أهم احتفال إفطار أحرص على المشاركة فيه منذ سنوات داخل مصر وخارجها، لأطفال دور الأيتام، ومراكز ذوي الاحتياجات من أصحاب الإعاقة.
وتأتي تلك الكلمات لتضيف أبعادًا إنسانية ذات خصوصية لأطفال، وكأنك تسمعهم يرددون..
لا تقل إني من ذوي الاحتياجات الخاصة، مدّ لي كف الأخوة ستراني في السباق أعبر الشوط بقوة.
معاقون جسديا أو نفسيًا أو سمعيًا أو توحديًا، .. لكن حين يتحركون ولا أتحرك، حين يثبتون ولا أثبت، حين يركضون ولا أركض، حين يقفزون ولا أقفز.
نظرات الشفقة تراها في أعينهم نظرات اليأس تنطلق وتصرخ مدوية من عينك.
لماذا تعاملونني هكذا ، كل ما أريده هو أن تعرفوا بأن لي عقلٌ يفكر، وقلبٌ ينبض، وصدقٌ يحكي قصة إنسان.
أنا منكم، ودمي من عرقكم، أحبوني وساعدوني من فضلكم.
صعوبتي لا تعني إعاقتي، سعادتي بوجودكم جانبي ومعي، وعذابي وألمي بغيابكم عني يا أحبتي.
أما آن الوقت لأجد لي مكانا في قلوبكم، وإلى متى ستكون إعاقتي سبباً في معاناتي.
وُلِدت ولم أختر إعاقتي بيدي، أتحاسبوني على ذنب لم أقترفه بنفسي؟
أبكي بشدة فتقهقهون بسرور، وعندما أحتاجكم ألقى عطفاً مستوراً.
وتسمع صدى كل هؤلاء من ذوي الهمم.. يرددون في نفس واحد "لا يوجد مُعاق إنّما هُناك مجتمع مُعيق.. فالإعاقة هي طاقة إرادتنا، سنتحدى بها إعاقتنا معكم فكونوا معنا"...
فتنهمر الدموع بلا إرادة، وتنبض القلوب هتافًا، (آه يا صغارنا.. ستكونون يوما كبارنا، بقلوبكم البيضاء، وأوجهكم البريئة، وأنفاسكم الهادئة وضحكاتكم النقية من القلب للقلب".
على مدى سنوات طويلة أشارك في حفلات افطار وسحور لمسؤولين ومؤسسات كبيرة، ورجال أعمال وأسماء لامعة في كل العالم، ومؤسسات وهيئات، لكن تبقى الاحتفالات البسيطة لمراكز ودور الأيتام ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة هي الاقرب إلى قلبي.
وفي حفل جمعية الخدمات المتكاملة، والجمعية المصرية لفنون الأرابيسك والمشربية، وجمعية ممكن، وغيرها من الجمعيات، تجد في مصر حاجة حلوة ومختلفة في يوم رمضاني بسيط جدا، لكنه كبير في كل معانيه، ويحمل أكبر معاني الحب... عندما تسمع الصغار (هتيجوا امتى تاني علشان نلعب) .. فجميعنا .. يحاول أن يخفي دموعه، ويكتم أنفاسه عندما نجهش بالبكاء.
وصدق الشاعر الكبير إيليا أبو ماضي، عندما ...
قالوا: اليتيمُ، فقلتُ: أَيْتَمُ مَنْ أرى
مَنْ كان للخلُقِ النَّبيل خَصيما
قالوا: اليتيمُ، فقلتُ أَيْتَمُ مَنْ أرى
مَن عاشَ بين الأكرمينَ لَئيما
كم رافلٍ في نعمةِ الأبوين، لم
يسلك طريقاً للهدى معلوماً
يا كافلَ الأيتام، كفُّكَ واحةٌ
لا تُنْبِتُ الأشواكَ والزقوما
ما أَنْبَتَتْ إلّا الزُّهورَ نديَّة
والشِّيحَ والرَّيحانَ والقيصُوما
أَبْشِرْ فإنَّ الأَرْضَ تُصبح واحةً
للمحسنين، وتُعلن التكريما
أبشرْ بصحبةِ خيرِ مَنْ وَطىءَ الثرى
في جَنَّةٍ كمُلَتْ رضاً ونَعيما
-------------------------
بقلم: محمود الحضري